في عالمنا المعاصر، حيث الكتب متاحة في كل منزل، وعلى كل رف، وحتى بصيغة إلكترونية بين أطراف الأصابع، يصعب علينا تخيل عصر كانت فيه كتاب واحد كنزًا لا يصل إليه إلا القلة المختارة. قبل اختراع الطباعة على يد يوهانس غوتنبرغ في منتصف القرن الخامس عشر، كان إنشاء كل مجلد بمثابة إنجاز يتطلب صبرًا ومهارة وتكاليف باهظة. كان عالمًا لم تكن فيه الكتاب مجرد وسيلة لنقل المعلومات؛ بل كانت عملاً فنيًا، وقطعة أثرية، ورمزًا للمعرفة والسلطة وحتى الحضور الإلهي.
بالغوص في العصور الوسطى، نكتشف أن مفهوم “الكتاب” كان يختلف اختلافًا جوهريًا عن مفهومنا الحالي. لم تكن سلعة تُنتج بكميات كبيرة، بل كانت قطعة فريدة، لكل منها قصتها، ومسارها من المواد المُعدة بعناية إلى التجليد المتقن. فهم كيف بدت هذه المخطوطات، وماذا صُنعت منها، ومن وكيف أنشأها، يتيح لنا تقدير قيمة الكلمة المكتوبة في ذلك العصر البعيد، وحجم الثورة الثقافية التي أحدثتها الطباعة.
قبل غوتنبرغ: لماذا كانت كتب العصور الوسطى كنوزًا، وليست مجرد نصوص؟

بالنسبة للإنسان المعاصر، الكتاب هو شيء يومي يمكن شراؤه بسعر زهيد نسبيًا أو حتى الحصول عليه مجانًا من المكتبة. في العصور الوسطى، كان الوضع مختلفًا تمامًا. كانت الكتب ذات قيمة لا تصدق، غالبًا ما تُقارن بالعقارات الكبيرة، أو قطعان الخيول، أو ثروة كبيرة. يفسر المؤرخون هذه القيمة الاستثنائية بعدة عوامل رئيسية متشابكة.
أولاً، كانت نادرة بشكل لا يصدق. كان عدد الكتب المتداولة ضئيلًا جدًا مقارنة بالمعايير الحديثة. قد تضم مكتبة دير كبيرة بضع مئات من المجلدات فقط، بينما كانت المكتبات الجامعية، التي ظهرت لاحقًا، لا تملك سوى عدد أكبر بقليل. تخيل عالمًا توجد فيه كل نص في بضعة نسخ فقط، وكل نسخة فريدة. هذه الندرة رفعت الكتاب تلقائيًا إلى مرتبة قطعة أثرية لا تقدر بثمن.
ثانيًا، كانت عملية الإنشاء شاقة وطويلة. كان كل كتاب نتيجة لعمل استغرق أشهرًا، وأحيانًا سنوات، لفريق من المتخصصين ذوي المهارات العالية. كانت عملية طويلة وشاقة، تتطلب ليس فقط جهدًا بدنيًا، بل أيضًا معرفة عميقة، ومهارات فنية، وصبرًا لا يصدق. في عصر لم تكن فيه آلات قادرة على أتمتة جزء من العملية، تم تنفيذ كل مرحلة يدويًا، من معالجة الرق إلى اللمسة الأخيرة في الرسوم التوضيحية. هذا العمل اليدوي، بطبيعة الحال، جعل كل نسخة باهظة الثمن وحصرية للغاية.
ثالثًا، تكلفة المواد. كما سنرى لاحقًا، لم تُصنع كتب العصور الوسطى من ورق رخيص. المادة الأساسية كانت الرق، الذي تطلب إنتاجه كميات هائلة من جلود الحيوانات – العجول والأغنام والماعز. لإنشاء نسخة واحدة من الكتاب المقدس، كانت هناك حاجة إلى جلود مئات الحيوانات، وكانت عملية معالجتها معقدة ومكلفة. بالإضافة إلى الرق، تم استخدام أصباغ ثمينة للألوان، بما في ذلك اللازورد الأزرق، والذهب والفضة للزخارف، بالإضافة إلى جلد عالي الجودة ومعدن للتجليد. كانت كل هذه المكونات باهظة الثمن وتتطلب موارد كبيرة.
وأخيرًا، القيمة الرمزية. في مجتمع كان فيه معظم السكان أميين، وكانت المعرفة تنتقل شفهيًا، كان الكتاب مصدرًا للحكمة العليا، والمعرفة المقدسة، والوحي الإلهي. كانت معظم كتب العصور الوسطى المبكرة نصوصًا دينية: كتب مقدسة، ومزامير، وكتب صلوات. كانت تُستخدم في الطقوس الدينية، والصلاة الشخصية، وكأشياء للتبجيل. امتلاك كتاب، خاصة المزخرف بشكل جميل، كان علامة على المكانة العالية، والتقوى، والسلطة. كانت الأديرة، التي كانت مراكز للتعليم والثقافة، تحافظ على مكتباتها كحدقة العين، لأنها لم تحتوِ النصوص فحسب، بل ذاكرة الحضارة ومعرفتها نفسها.
وبالتالي، لم يكن كتاب العصور الوسطى مجرد حامل للمعلومات، بل كان عملاً فنيًا، وقطعة فاخرة، ورمزًا للمكانة، ومخزنًا للمعرفة الثمينة. لم تُقاس قيمته فقط بعدد الكلمات، بل بأشهر العمل، وتكلفة المواد، والمعنى الروحي العميق الذي حمله. لا عجب أن كل واحدة منها كانت كنزًا حقيقيًا.
ليس ورقًا، بل جلد: مم صُنعت الكتب في العصور الوسطى حقًا؟

إذا كنا نتخيل اليوم الكتاب كمكدس من الصفحات الورقية في غلاف، فإن هذا التصور في العصور الوسطى كان سيكون خاطئًا تمامًا. المادة الأساسية للكتابة في أوروبا حتى أواخر العصور الوسطى لم تكن الورق، بل الرق. هذه المادة، التي تتمتع بمتانة مذهلة، لعبت دورًا رئيسيًا في الحفاظ على المعرفة عبر قرون عديدة.
الرق (من اسم مدينة بيرغاموس القديمة، حيث يُقال إنه اخترع أو حُسّن) هو جلد حيوانات مُعالج خصيصًا. غالبًا ما كانت تُستخدم جلود العجول والأغنام والماعز. كان الرق الأكثر جودة وغلاء هو “الفلم” (vellum) – رق رفيع جدًا وناعم، مصنوع من جلود العجول الصغيرة أو حتى غير المولودة. كان لطيفًا بشكل خاص ومناسبًا لإنشاء مخطوطات فاخرة مع العديد من الرسوم التوضيحية.
كانت عملية صنع الرق شاقة للغاية وتتطلب مهارة عالية. أولاً، كانت جلود الحيوانات تُنظف بعناية من الشعر وبقايا اللحم. ثم تُنقع في محاليل جيرية لإزالة الدهون وتسهيل التنظيف. بعد ذلك، تُشد الجلود على إطارات خاصة، وتبدأ المرحلة الأكثر أهمية – الكشط. باستخدام سكاكين خاصة نصف دائرية (lunarium)، يقوم الحرفيون بإزالة جميع العيوب بعناية، مما يجعل السطح أملسًا ورقيقًا ومتجانسًا قدر الإمكان. تُشد الجلود وتُكشط حتى تصبح مستوية تمامًا، صالحة للكتابة على كلا الجانبين. أخيرًا، يُجفف الرق، ويُصقل بحجر الخفاف، وإذا لزم الأمر، يُبيض باستخدام الطباشير أو مواد أخرى.
لماذا الرق تحديدًا، وليس الورق، الذي كان معروفًا في الصين قبل ذلك بكثير ووصل إلى أوروبا عبر العالم العربي؟ أولاً، كان الرق قويًا ومتينًا بشكل لا يصدق. كان يتحمل الطي المتكرر، ولا يتمزق أو يتفتت بمرور الوقت، على عكس الأنواع المبكرة من الورق. ثانيًا، كان سطحه مثاليًا للكتابة بالقلم ورسم الألوان الزاهية، بما في ذلك الذهب الرقيق الذي يلتصق جيدًا بالسطح الأملس. ثالثًا، كان الرق أكثر مقاومة للرطوبة والآفات، وهو أمر بالغ الأهمية للحفاظ على النصوص القيمة. وأخيرًا، يمكن إعادة استخدامه. في حالة نقص المواد أو الحاجة إلى إعادة كتابة نص أكثر حداثة، يمكن كشط الرق القديم واستخدامه لكتابة جديدة، مما يخلق ما يسمى بـ “الرق المكتوب فوقه” (palimpsests). هذا يشير إلى القيمة الاستثنائية للمادة.
بدأ الورق يتغلغل في أوروبا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، لكنه ظل لفترة طويلة مادة أقل هيبة وأقل متانة، تُستخدم بشكل أساسي للمسودات، أو الوثائق التجارية، أو النصوص الأقل أهمية. فقط بحلول القرنين الرابع عشر والخامس عشر، مع تطور مصانع الورق، أصبح الورق متاحًا بشكل أكبر وبدأ تدريجيًا في استبدال الرق، مما مهد الطريق للطباعة.
للكتابة على الرق، كانت تُستخدم أحبار تختلف أيضًا عن أحبارنا الحديثة. الأكثر شيوعًا كانت أحبار الحديد والعفص، المصنوعة من عفص البلوط (نمو على أشجار البلوط تسببه الحشرات)، وكبريتات الحديد، والصمغ. أعطت هذه الأحبار لونًا أسود ثابتًا أو أسود مائل للبني، والذي قد يكتسب لونًا صدئًا بمرور الوقت. للترقيم (تمييز العناوين، الأحرف الأولى، والأماكن المهمة)، كانت تُستخدم أحبار حمراء، غالبًا ما تكون مصنوعة من الزنجفر أو أكسيد الرصاص.
كان تجليد كتاب العصور الوسطى أيضًا عملاً فنيًا وحماية حقيقية. كانت الصفحات تُجمع في كراسات (quire)، ثم تُخاط معًا. تم تثبيت المجلد الناتج على ألواح خشبية، والتي كانت تُغطى بالجلد. غالبًا ما كانت زوايا الكتاب تُحمى بصفائح معدنية، ولتثبيت الصفحات ومنع تشوهها، كانت تُستخدم مشابك معدنية ثقيلة أو أحزمة. كانت النسخ الأكثر فخامة تُزين بالأحجار الكريمة، والمينا، والعاج، والذهب المفرغ، مما زاد من تأكيد مكانتها ككنز.
معجزة مخطوطة: كيف ومن أنشأ الصفحات “المطبوعة” يدويًا؟

كان إنشاء كل كتاب من كتب العصور الوسطى مشروعًا ضخمًا، يُقارن ببناء مبنى معماري. لم يكن عملًا فرديًا، بل عمل ورشة كاملة، حيث يؤدي كل فرد دوره المتخصص. كانت المراكز الرئيسية لإنتاج الكتب في العصور الوسطى المبكرة والمتوسطة هي “سكربتوريا” (scriptoria) الأديرة (من اللاتينية scriptorium – مكان للكتابة)، ولاحقًا، مع ازدهار الجامعات، ظهرت ورش عمل علمانية.
تخيل غرفة هادئة ومضاءة جيدًا في دير، حيث تنحني صفوف من الرهبان النسّاخ (scribae) فوق طاولاتهم. كانت عملهم رتيبًا للغاية، ويتطلب رؤية جيدة وصبرًا. بدأت عملية إنشاء الكتاب قبل وقت طويل من ملامسة الريشة للرق.
أولاً، كان الرق، بعد جميع إجراءات التحضير، يُقطع إلى أوراق بالحجم المطلوب. ثم تُخط هذه الأوراق بعناية. باستخدام مسطرة، وفرجار، وأداة حادة (مثقاب أو سكين غير حاد)، كانت تُرسَم خطوط على كل صفحة تحدد الهوامش، وعدد الأسطر، وحجم الخط. ساعدت هذه الخطوط غير المرئية للعين الناسخ على الحفاظ على استقامة النص وتوحيد الشكل، وهو أمر مهم للجماليات وسهولة القراءة.
كان العمل الرئيسي في نسخ النص يقوم به الناسخ (scriba). كان يعمل، ينسخ النص من مخطوطة أخرى موجودة بالفعل، والتي كانت تسمى “النموذج الأصلي” (protograph). تطلبت هذه العملية ليس فقط خطًا جميلًا ودقيقًا، بل أيضًا تركيزًا عميقًا، لأن أي خطأ يمكن أن يؤدي إلى تشويه المعنى. كان النسّاخ يعملون لساعات طويلة، غالبًا في غرف باردة، في ضوء خافت من الشموع أو المصابيح، مما أثر بشدة على رؤيتهم وصحتهم. أحيانًا كان يُنسخ النص بالإملاء، ولكن في الغالب كان الناسخ يعمل في صمت، ينقل الكلمات سطرًا بسطر إلى الرق.
بعد أن تم نسخ النص الرئيسي، تولى المُرقّم (rubricator) المهمة. كانت مهمته إضافة النقوش الحمراء (rubrics، من اللاتينية ruber – أحمر)، التي تميز العناوين، والكلمات الأولى للفصول، والتعليقات، أو التعليمات المهمة. كان اللون الأحمر يُستخدم لجذب الانتباه وهيكلة النص، مما يجعله أكثر ملاءمة للقراءة والتنقل. قد يضيف المُرقّمون أيضًا أحرفًا أولية زخرفية بسيطة.
كانت المرحلة الأكثر إثارة هي إنشاء الرسوم التوضيحية. كان يقوم بها الرسامون أو مصغرو الصور (illuminators or miniaturists). حولوا المخطوطة إلى عمل فني، مضيفين أحرفًا أولية ملونة، وإطارات زخرفية (bordures)، ورسومًا توضيحية كاملة للصفحة (miniatures)، والتي غالبًا ما كانت تحكي قصصًا دينية أو تاريخية، أو مشاهد من الحياة اليومية، أو رموزًا. لهذه الأغراض، تم استخدام مجموعة متنوعة من الأصباغ باهظة الثمن: اللازورد الأزرق (المُستخرج من اللازورد)، والزنجفر الأحمر، والمالاكيت الأخضر، والأوريبيجمنت الأصفر، وبالطبع، الذهب الرقيق.
كانت عملية التزيين متعددة الخطوات. أولاً، كان الفنان يرسم مخططًا بالقلم الرصاص أو بعصا فضية. ثم يُطبق مركب لاصق (gesso) للذهب، ثم تُثبت عليه بعناية صفائح رقيقة من الذهب الرقيق، والتي تُصقل بعد ذلك حتى تصبح لامعة كالمرآة. فقط بعد ذلك تُطبق الألوان، طبقة فوق طبقة، بتفاصيل لا تصدق. لم يكن الرسامون مجرد فنانين، بل كيميائيين أيضًا، يعرفون خصائص الأصباغ المختلفة وتركيباتها.
أخيرًا، بعد اكتمال جميع أجزاء الكتاب، تدخل المُدقّق (corrector)، الذي يقرأ النص، ويقارنه بالأصل، ويصحح أخطاء النسّاخ. وأخيرًا، يُسلم الكتاب إلى المجلّد (bookbinder)، الذي يجمع الأوراق الفردية في كراسات، ويخيطها، ويُجلّدها في ألواح خشبية مغطاة بالجلد. أحيانًا، كان يشرف على العملية برمتها أمين الأرشيف أو أمين المكتبة (armarius)، الذي كان مسؤولاً أيضًا عن حفظ المكتبة وتوسيعها.
كانت أدوات العصور الوسطى بسيطة: ريش من ريش الإوز أو البجع، والتي كانت تحتاج إلى شحذ منتظم؛ محابر؛ حجر خفاف لصقل الرق؛ سكاكين لكشط الأخطاء؛ مساطر وفرجار. ومع ذلك، باستخدام هذه الأدوات البسيطة، أنشأ الحرفيون روائع تثير الإعجاب حتى يومنا هذا.
تخيل كم من الوقت استغرقت لإنشاء كتاب واحد كهذا. الكتاب المقدس، الذي يتكون من مئات الأوراق، قد يستغرق إنتاجه عدة سنوات. كانت كل صفحة شهادة على آلاف الساعات من العمل الدقيق، مما يجعل هذه المخطوطات ليست مجرد نصوص، بل آثار فريدة للإصرار البشري والمهارة.
من النصوص المقدسة إلى ألغاز الكيمياء: ماذا كُتب وكيف زُينت مخطوطات العصور الوسطى؟

كان محتوى كتب العصور الوسطى متنوعًا مثل الحياة نفسها في ذلك العصر، على الرغم من أن التوزيع الموضوعي اختلف اختلافًا كبيرًا عن اليوم. في المقام الأول، خدمت المخطوطات أغراض الدين والتعليم، ولكن بالإضافة إلى ذلك، احتوت على معارف في مجالات مختلفة جدًا: من الفلسفة والقانون إلى العلوم والأدب. يعكس تنوع المحتوى اهتمامات واحتياجات المجتمع، من رجال الدين والنبلاء إلى الطبقات الحضرية الناشئة.
النصوص الدينية: أعمدة كتابة العصور الوسطى
كان النصيب الأكبر من جميع المخطوطات التي أُنشئت نصوصًا دينية. كانت هذه تشمل:
- الكتب المقدسة: نسخ كاملة أو جزئية للكتاب المقدس، غالبًا ما تكون ضخمة الحجم، مخصصة لمكتبات الأديرة أو الكاتدرائيات، وكذلك للقراءة في الكنيسة.
- المزامير: كتب المزامير، غالبًا ما تكون مزينة بشكل غني، كانت تُستخدم للصلاة الشخصية والطقوس الدينية. كانت من بين الكتب الأكثر شعبية وغالبًا ما كانت تُطلب للشخصيات النبيلة.
- كتب القداس والصلوات اليومية: كتب تحتوي على نصوص وصلوات للعبادة.
- كتب الساعات (Books of Hours): ربما كانت الكتب الأكثر شيوعًا وشخصية للعلمانيين. كانت تحتوي على صلوات مخصصة للقراءة في أوقات معينة من اليوم، بالإضافة إلى تقاويم ونصوص تقوية أخرى. غالبًا ما كانت كتب الساعات تُطلب من السيدات والسادة النبلاء وكانت مزينة بشكل لا يصدق.
- سير القديسين: قصص عن حياة القديسين ومعجزاتهم، كانت بمثابة نماذج للاقتداء ومصدر إلهام.
- المقالات اللاهوتية: أعمال مفكرين مثل أوغسطينوس، توما الأكويني، سكوت، وغيرهم، شكلت أسس الفلسفة واللاهوت في العصور الوسطى.
المعارف العلمانية: من العصور القديمة إلى السجلات التاريخية
بالإضافة إلى النصوص الدينية، كانت هناك فئات أخرى من المخطوطات، والتي اكتسبت أهمية متزايدة بمرور الوقت:
- النصوص الكلاسيكية: لعبت الأديرة دورًا رئيسيًا في الحفاظ على أعمال المؤلفين القدماء – أفلاطون، أرسطو، فيرجيل، شيشرون، أوفيد. نُسخت هذه النصوص ودُرست، وشكلت الأساس الفكري لعصر النهضة الأوروبية.
- النصوص القانونية: كانت قوانين المدونات (مثل قانون جستنيان)، ومجموعات القانون الكنسي، بالإضافة إلى مختلف المراسيم والسجلات القضائية، بالغة الأهمية لعمل الدولة والكنيسة.
- النصوص العلمية والطبية: شملت كتب الأعشاب (وصف النباتات الطبية)، والمقالات الطبية، والجداول الفلكية، والمخطوطات الكيميائية. في بعض الأحيان، كانت تحتوي على رسوم توضيحية مفصلة، مثل الأطالس التشريحية.
- الأعمال الأدبية: روايات مختلفة (مثل دورة الملك آرثر)، قصائد ملحمية (مثل “نشيد رولاند”)، شعر التروبادور والميسترشينغر، بالإضافة إلى أعمال ساخرة.
- السجلات التاريخية: تسجيلات للأحداث، تصف تاريخ الممالك، والسلالات، والأحداث الهامة.
- الكتب المدرسية: قواعد اللغة، والبلاغة، ومقالات المنطق، التي كانت تُستخدم في مدارس الأديرة والجامعات.
فن الزخرفة: عالم التزيين
كان تزيين مخطوطات العصور الوسطى، أو التزيين (من اللاتينية illuminare – إضاءة، تلميع)، جزءًا لا يتجزأ من إنشائها وأضفى عليها قيمة وجمالًا إضافيًا. لم يكن مجرد زخرفة، بل وسيلة لتجسيد النص، وتفسيره، وأحيانًا معانيه الخفية.
- الأحرف الأولى: غالبًا ما كانت الأحرف الأولى للفصول أو الفقرات مزينة بشكل غني. يمكن أن تكون مزخرفة (أنماط معقدة، زخارف نباتية) أو مصورة (تحتوي على مشاهد قصصية أو شخصيات بشرية وحيوانية، وأحيانًا تحكي قصة مصغرة مرتبطة بالنص).
- الإطارات والحدود: غالبًا ما كانت هوامش الصفحات مزينة بزخارف معقدة، وزهور، ونباتات، وأحيانًا مخلوقات مضحكة، وغريبة في بعض الأحيان، تُعرف بـ الدرويلري (drolleries). يمكن أن تكون هذه الزخارف رمزية أو زخرفية بحتة.
- الرسوم المصغرة: رسوم توضيحية كاملة للصفحة أو مدمجة في النص. لم تكن للجمال فحسب، بل لتسهيل فهم النص، خاصة للقراء الأميين أو قليلي القراءة الذين يمكنهم “قراءة” القصة من خلال الصور. صورت الرسوم المصغرة مشاهد دينية، وصورًا للقديسين، وأحداثًا تاريخية، ومشاهد من الحياة اليومية، وأحيانًا عوالم خيالية.
لإنشاء هذه الزخارف، تم استخدام مواد باهظة الثمن بشكل لا يصدق. كان الذهب يُطبق على شكل رقائق (أوراق رقيقة جدًا) أو مسحوق ويُصقل حتى يلمع، مما يجعل الصفحة “تضيء” حرفيًا (ومن هنا جاء اسم “التزيين” – illumination). كانت لوحة الألوان غنية، ولكنها محدودة بالأصباغ المتاحة: الأزرق الزاهي اللازورد (من اللازورد، الذي كان يُجلب من أفغانستان)، والزنجفر الأحمر، والمالاكيت الأخضر، والأصفر المغرة، والأرجواني، وغيرها. كان الرسامون حرفيين حقيقيين، ينقلون أسرار الحرفة من جيل إلى جيل.
تطورت أساليب الزخرفة على مدار العصور الوسطى. من الأنماط الهندسية والرمزية في العصور الوسطى المبكرة (مثل كتاب كيلز)، إلى الصور الأكثر واقعية وتفصيلاً في الفترة القوطية. تُظهر روائع مثل “كتاب الساعات الرائع لدوق بيري” قمة هذا الفن، مبهرة بثراء الألوان، ودقة التفاصيل، وعمق التكوين.
وبالتالي، لم تكن مخطوطات العصور الوسطى مجرد نصوص، بل عوالم كاملة، تداخلت فيها المعرفة والإيمان والفن، أُنشئت للحفاظ على الحكمة وتمجيد الجمال.
تراث قديم: لماذا كتب العصور الوسطى لا تقدر بثمن وكيف تُحفظ اليوم؟

كل مخطوطة من العصور الوسطى وصلت إلينا هي شهادة لا تقدر بثمن على الماضي. لا تُحدد قيمتها بسعر السوق، على الرغم من أنها قد تصل إلى مبالغ فلكية، بل بأهميتها التاريخية والثقافية والفنية العميقة. هذه الكتب ليست مجرد قطع أثرية؛ بل هي جسور حية تربطنا بعالم لم يعد موجودًا، وتقدم نوافذ فريدة على عقلية ومعتقدات ومعارف وفن الأشخاص الذين عاشوا قبل قرون عديدة.
أولاً، قيمتها التاريخية لا يمكن إنكارها. المخطوطات هي مصادر أولية للمعلومات عن العصور الوسطى. نتعلم منها عن الأحداث، والقوانين، والممارسات الدينية، والمفاهيم العلمية، والأذواق الأدبية، وحتى عن الحياة اليومية. العديد من النصوص الفريدة لم تُحفظ إلا بفضل هذه المخطوطات، وبدونها لما عرفنا أبدًا عن العديد من جوانب حضارة العصور الوسطى. كل خط، كل علامة، كل رسم يمكن أن يروي قصة عن الناسخ، أو عن العميل، أو عن الوقت الذي أُنشئ فيه الكتاب.
ثانيًا، تمثل أعمالًا فنية وحرفية بارزة. المخطوطات الرقّية عالية الجودة، وخاصة المزينة، هي قمة براعة الفن والحرف اليدوية في العصور الوسطى. تُظهر تفاصيل لا تصدق، واستخدام تقنيات معقدة (مثل العمل بالذهب الرقيق)، وفهم عميق للألوان والتكوين. هذه الكتب ليست مجرد حاملات للمعلومات، بل هي أشياء جمالية، تُقارن بأعظم اللوحات أو المباني المعمارية.
ثالثًا، تفردها وندرتها تجعلها ذات قيمة خاصة. عدد المخطوطات التي نجت من العصور الوسطى ضئيل جدًا مقارنة بما أُنشئ، وبالتأكيد مقارنة بعدد الكتب الحديثة. فقد العديد من المخطوطات بسبب الحروب، والحرائق، وسوء التخزين، أو ببساطة بسبب تدمير الزمن. كل نسخة صمدت هي معجزة بقاء، وهي أكثر قيمة لأن كل منها فريدة، أُنشئت يدويًا ولا توجد لها نسخ طبق الأصل.
إدراكًا لهذه القيمة التي لا تقدر بثمن، تبذل الأجيال الحالية من العلماء والمحافظين جهودًا هائلة للحفاظ على هذا الإرث. الحفظة الرئيسيون لمخطوطات العصور الوسطى هم أكبر المكتبات والمتاحف في العالم:
- المكتبة البريطانية في لندن، التي تمتلك واحدة من أكبر المجموعات، بما في ذلك روائع مثل المخطوطة الإسكندرية وإنجيل لينديسفارن.
- المكتبة الرسولية الفاتيكانية، التي تحتفظ بنصوص دينية وعلمانية لا حصر لها، جُمعت على مر القرون.
- المكتبة الوطنية الفرنسية (Bibliothèque Nationale de France) في باريس، كنز من مخطوطات العصور الوسطى، بما في ذلك العديد من كتب الساعات القوطية.
- المكتبة الحكومية البافارية في ميونيخ، المعروفة بمجموعاتها من المخطوطات الألمانية.
- العديد من المكتبات الجامعية، مثل تلك الموجودة في أكسفورد، وكامبريدج، وهايدلبرغ، تمتلك أيضًا مجموعات كبيرة.
يتطلب الحفاظ على هذه القطع الأثرية الهشة تحكمًا صارمًا في ظروف التخزين. تُحفظ المخطوطات في مستودعات خاصة مع مستوى متحكم فيه من درجة الحرارة والرطوبة، لمنع تدهور الرق والأصباغ. تُحمى من الضوء المباشر، الذي يمكن أن يسبب بهتان الألوان، ومن الآفات، مثل الحشرات والعفن. الوصول إلى النسخ الأصلية للباحثين محدود للغاية، واستخدام القفازات وحوامل خاصة إلزامي لتقليل التأثير المادي.
يُعد الرقمنة أحد أهم مجالات العمل الحديث للحفاظ. تقوم كبرى المكتبات حول العالم برقمنة مجموعاتها من مخطوطات العصور الوسطى بنشاط، وإنشاء نسخ رقمية عالية الجودة لكل صفحة. هذا يجعل هذه الكنوز التي لا تقدر بثمن متاحة للعلماء والجمهور في جميع أنحاء العالم، دون الحاجة إلى الاتصال المادي بالنسخ الأصلية، مما يقلل بشكل كبير من خطر تلفها. الآن يمكن لأي شخص يرغب في ذلك فحص أدق التفاصيل للرسوم التوضيحية، وقراءة النصوص باللغات القديمة، والغوص في عالم كتاب العصور الوسطى دون مغادرة منزله.
على الرغم من كل الجهود، تظل كتب العصور الوسطى هشة وعرضة للشيخوخة الطبيعية. لذلك، يستمر عمل المرممين والمحافظين لضمان حفظها للأجيال القادمة. كل مخطوطة صمدت هي ليست مجرد نصب تذكاري، بل تذكير حي بكيفية تقدير البشرية للمعرفة ونقلها في عصر ما قبل الطباعة الجماعية. إنها لا تُعد مصدرًا للمعلومات فحسب، بل مصدرًا للإلهام أيضًا، وتُظهر التفاني والمهارة اللامتناهية لأولئك الذين كرسوا حياتهم لإنشاء هذه العجائب المكتوبة بخط اليد.